ربما كان المشهد الأهم في تنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى، بعد مماطلة اسرائيلية لمدة 72 ساعة، بذريعة عدم الافراج عن احدى الأسيرات، فتح معبر نيتساريم وما أعقبه من طوفان بشري هائل سيسجله التاريخ، بدأ بتاريخ 27 كانون الثاني والأيام التالية، في رحلة العودة من جنوب ووسط القطاع الى شمال غزة، وكأنه مشهد من موسم الحجيج!
وكأن تلك الحشود كانت ترد بشكل عفوي، على اقتراح الرئيس الأميركي ترامب، بتهجير سكان قطاع غزة الى بعض دول الجوار وتحديدا «مصر والأردن»، والحقيقة التي تبدو راسخة أن الغزيين مكسب لأي بلد يقيمون ويعملون فيه، من حيث الكفاءة والقدرة على الصبر والتصدي وتحدي الصعوبات، كما فعلوا في مواجهة العدوان الصهيوني خلال 15 شهرا، وأكبر دليل على ذلك هذه الحشود الهائلة من سكان القطاع، العائدين إلى بيوتهم سيرا على الأقدام وهم يدركون أنها مدمرة، هؤلاء المتشبثون بأرضهم يستحيل انتزاعهم من وطنهم.
وكان أبلغ رد على خطة الرئيس ترامب، سمعته على لسان رجل غزّي كان يقوم بتفكيك خيمته تمهيدا للعودة إلى الشمال. قال الرجل باختصار شديد: «اذا كان ترامب قرر تسفير المهاجرين غير الشرعيين من بلاده، فكيف يطلب منا الرحيل من أرضنا في قطاع غزة إلى دول أخرى"؟
وأهم من ذلك أن الدول التي اقترحها ترامب، لتهجير سكان القطاع «الأردن ومصر» وربما دول أخرى لم يذكرها، موقفها واضح ورافض لعمليات تهجير الفلسطينيين، سواء كانوا من قطاع غزة أو الضفة الغربية، حفاظا على حقوقهم الوطنية في أرضهم، وهو ما يتناقض جوهريا مع خيار «حل الدولتين»، باعتبارها الخطة التي أقرتها الشرعية الدولية والقرارات الأممية، وكافة المبادرات السياسية لتسوية الصراع العربي الصهيوني. لكن فكرة التهجير هي في جوهرها جزء من «صفقة القرن» التي طرحها ترامب في ولايته الأولى، التي كانت تعني تصفية القضية الفلسطينية، لكنها قوبلت بالرفض من قبل الفلسطينيين بكافة مكوناتهم السياسية والفصائلية، ومن قبل دول الجوار المعنية مباشرة في الصراع.
ان التفكير بأي خطة تهجير تندرج في اطار عملية التطهير العرقي، ضمن استراتيجية منهجية استكمالا لحرب الابادة الجماعية، التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة لمدة 15 شهرا، التي كانت تستهدف تدمير مختلف مقومات الحياة، وجعل أرض القطاع غير قابلة للحياة، من حيث انعدام الخدمات وتدمير المساكن والمستشفيات والمرافق الصحية، وخلق بيئة مناسبة لانتشار الأمراض والأوبئة.
ولم تكتف قوات الاحتلال بتدمير قطاع غزة فقط، بل بدأت عمليات عسكرية في الضفة الغربية أيضا، وخاصة مدينة جنين ومخيمها، دون أن تحترم أو تقيم أي احترام لوجود السلطة الفلسطينية، التي انتجها «اتفاق أوسلو» الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل عام 1993، ومنذ 7 أكتوبر عام 2023 تجاوز عدد الشهداء في الضفة الغربية 600 شهيد، وأضعاف هؤلاء من الجرحى وآلاف المعتقلين.
ان الكرة الآن في المرمى الفلسطيني للرد على هذه التحديات الاسرائيلية، فبعد «الكارثة والبطولة» التي عاشها قطاع غزة، وما يجري في الضفة الغربية من انتهاكات وعمليات قتل وتنكيل واعتداءات عسكرية إسرائيلية، لا بد أن يدفع السلطة الفلسطينية وكافة الفصائل السياسية والمسلحة، وبخاصة حركة حماس وجناحها العسكري، للتفكير جدياً بصيغة حقيقية للمصالحة الفلسطينية، فالدماء الغزيرة التي نزفت في قطاع غزة والضفة الغربية، تشكل أهم حافز للمصالحة وانهاء الانقسام.